فصل: من فوائد ابن كثير في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وجوّزوا أن يكون في موضع نصب على موضع بشر أي: أنبئكم من لعنه الله.
ويحتمل من لعنه الله أن يراد به أسلاف أهل الكتاب كما تقدّم، أو الأسلاف والأخلاف، فيندرج هؤلاء الحاضرون فيهم.
والذي تقتضيه الفصاحة أن يكون من وضع الظاهر موضع الضمير تنبيهًا على الوصف الذي حصل به كونه شرًا مثوبة، وهي اللعنة والغضب.
وجعل القردة والخنازير منهم، وعبد الطاغوت، وكأنه قيل: قل هل أنبئكم بشرّ من ذلك مثوبة عند الله أنتم أي: هو أنتم.
ويدل على هذا المعنى قوله بعد: {وإذا جاءُوكم قالوا آمنا} فيكون الضمير واحدًا.
وقرأ أبي وعبد الله: من غضب الله عليهم، وجعلهم قردة وخنازير، وجعل هنا بمعنى صير.
وقال الفارسي: بمعنى خلق، لأن بعده وعبد الطاغوت، وهو معتزلي لا يرى أنّ الله يصير أحدًا عابد طاغوت.
وتقدّم الكلام في مسخهم قردة في البقرة.
وأما الذين مسخوا خنازير فقيل: شيوخ أصحاب السبت، إذ مسح شبانهم قردة قاله: ابن عباس.
وقيل: أصحاب مائدة عيسى.
وذكرت أيضًا قصة طويلة في مسخ بني إسرائيل خنازير ملخصها: أنّ امرأة منهم مؤمنة قاتلت ملك مدينتها ومن معه، وكانوا قد كفروا بمن اجتمع إليها ممن دعته إلى الجهاد ثلاث مرات وأتباعها يقتلون، وتنفلت هي، فبعد الثالثة سببت واستبرأت في دينها، فمسخ الله أهل المدينة خنازير في ليلتهم تثبيتًا لها على دينها، فلما رأتهم قالت: اليوم علمت أن الله أعز دينه وأقره، فكان المسخ خنازير على يدي هذه المرأة، وتقدم تفسير الطاغوت.
وقرأ جمهور السبعة: وعبد الطاغوت.
وقرأ أبيّ: وعبدوا الظاغوت.
وقرأ الحسن في رواية: وعبد الطاغوت بإسكان الباء.
وخرجه ابن عطية: على أنه أراد وعبدًا منوّنًا فحذف التنوين كما حذف في قوله: {ولا ذاكر الله إلا قليلًا} ولا وجه لهذا التخريج، لأن عبدًا لا يمكن أن ينصب الطاغوت، إذ ليس بمصدر ولا اسم فاعل، والتخريج الصحيح أن يكون تخفيفًا من عبد بفتحها كقولهم: في سلف سلف.
وقرأ ابن مسعود في رواية: عُبد بضم الباء نحو شرف الرجل أي: صار له عبد كالخلق والأمر المعتاد قاله: ابن عطية: وقال الزمخشري: أي صار معبودًا من دون الله كقولك: أمر إذا صار أميرًا انتهى.
وقرأ النخعيّ وابن القعقاع والأعمش في رواية هارون، وعبد الطاغوت مبنيًا للمفعول، كضرب زيد.
وقرأ عبد الله في رواية: وعبدت الطاغوت مبنيًا للمفعول، كضربت المرأة.
فهذه ست قراءآت بالفعل الماضي، وإعرابها واضح.
والظاهر أنّ هذا المفعول معطوف على صلة من وصلت بلعنه، وغضب، وجعل، وعبد، والمبني للمفعول ضعفه الطبري وهو يتجه على حذف الرابط أي: وعبد الطاغوت فيهم أو بينهم.
ويحتمل أن يكون وعبد ليس داخلًا في الصلة، لكنه على تقدير من، وقد قرأ بها مظهرة عبد الله قرأ، ومن عبد فإما عطفًا على القردة والخنازير، وإما عطفًا على من قوله: من لعنه الله.
وقرأ أبو واقد الأعرابي: وعباد الطاغوت جمع عابد، كضرّاب زيد.
وقرأ ابن عباس في رواية، وجماعة، ومجاهد، وابن وثاب: وعبد الطاغوت جمع عبد، كرهن ورهن.
وقال ثعلب: جمع عابد كشارف وشرف.
وقال الزمخشري تابعًا للأخفش: جمع عبيد، فيكون إذ ذاك جمع جمع وأنشدوا:
أنسب العبد إلى آبائه ** اسود الجلدة من قوم عبد

وقرأ الأعمش وغيره: وعبد الطاغوت جمع عابد، كضارب وضرب.
وقرأ بعض البصريين: وعباد الطاغوت جمع عابد كقائم وقيام، أو جمع عبد.
أنشد سيبويه:
أتوعدني بقومك يا ابن حجل ** اسابات يخالون العبادا

وسمى عرب الحيرة من العراق لدخولهم في طاعة كسرى: عبادًا.
وقرأ ابن عباس في رواية: وعبيد الطاغوت جمع عبيد، نحو كلب وكليب.
وقرأ عبيد بن عمير: وأعبد الطاغوت جمع عبد كفلس وأفلس.
وقرأ ابن عباس وابن أبي عبلة: وعبد الطاغوت يريد وعبدة جمع عابد، كفاجر وفجرة، وحذف التاء للإضافة، أو اسم جمع كخادم وخدم، وغائب وغيب.
وقرئ: وعبدة الطاغوت بالتاء نحو فاجر وفجرة، فهذه ثمان قراءات بالجمع المنصوب عطفًا على القردة والخنازير مضافًا إلى الطاغوت.
وقرئ وعابدي.
وقرأ ابن عباس في رواية: وعابدوا.
وقرأ عون العقيلي: وعابد، وتأولها أبو عمرو على أنها عآبد.
وهذان جمعا سلامة أضيفا إلى الطاغوت، فبالتاء عطفًا على القردة والخنازير، وبالواو عطفًا على من لعنه الله أو على إضمارهم.
ويحتمل قراءة عون أن يكون عابد مفردًا اسم جنس.
وقرأ أبو عبيدة: وعابد على وزن ضارب مضافًا إلى لفظ الشيطان، بدل الطاغوت.
وقرأ الحسن: وعبد الطاغوت على وزن كلب.
وقرأ عبد الله في رواية: وعبد على وزن حطم، وهو بناء مبالغة.
وقرأ ابن وثاب والأعمش وحمزة: وعبد على وزن يقظ وندس، فهذه أربع قراءات بالمفرد المراد به الجنس أضيفت إلى الطاغوت.
وفي القراءة الأخيرة منها خلاف بين العلماء.
قال نصير النحوي صاحب الكسائي وهو وهم ممن قرأ به، وليسأل عنه العلماء حتى نعلم أنه جائز.
وقال الفراء: إن يكن لغة مثل حذر وعجل فهو وجه، وإلا فلا يجوز في القراءة.
وقال أبو عبيد: إنما معنى العبد عندهم إلا عبد، يريدون خدم الطاغوت، ولم نجد هذا يصح عن أحد من فصحاء العرب أن العبد يقال فيه عبد، وإنما هو عبد وأعبد بالألف.
وقال أبو علي: ليس في أبنية المجموع مثله، ولكنه واحد يراد به الكثرة، وهو بناء يراد به المبالغة، فكأن هذا قد ذهب في عبادة الطاغوت.
وقال الزمخشري: ومعناه العلو في العبودية كقولهم: رجل حذر فطن للبليغ في الحذر والفطنة.
قال الشاعر:
أبني لبيني أن أمكم ** أمة وإن أباكم عبد

انتهى.
وقال ابن عطية: عبد لفظ مبالغة كيقظ وندس، فهو لفظ مفرد يراد به الجنس، وبنى بناء الصفات لأن عبدًا في الأصل صفة وإن كان يستعمل استعمال الأسماء، وذلك لا يخرجه عن حكم الصفة، ولذلك لم يمتنع أن يبني منه بناء مبالغة.
وأنشد أبني لبيني البيت، وقال: ذكره الطبري وغيره بضم الباء انتهى.
وعد ابن مالك في أبنية أسماء الجمع فعلًا فقال: ومنها فعل كنحو سمر وعبد.
وقرأ ابن عباس فيما روى عنه عكرمة: وعبد الطاغوت جمع عابد كضارب وضرب، ونصب الطاغوت أراد عبدًا منونًا فحذف التنوين لالتقاء الساكنين كما قال: {ولا ذاكر الله إلا قليلًا} فهذه إحدى وعشرون قراءة بقراءة بريد، تكون اثنين وعشرين قراءة.
قال الزمخشري: فإن قلت: كيف جاز أن يجعل الله منهم عباد الطاغوت؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما: أنه خذلهم حتى عبدوها، والثاني: أنه حكم عليهم بذلك ووصفهم به كقولهم: {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثًا} انتهى.
وهذا على طريق المعتزلة، وتقدم تفسير الطاغوت.
وقرأ الحسن: الطواغيت.
وروي أنه لما نزلت كان المسلمون يعيرون اليهود يقولون: يا أخوة القردة والخنازير، فينكسون رؤوسهم.
{أولئك شر مكانًا} الإشارة إلى الموصوفين باللعنة وما بعدها، وانتصب مكانًا على التمييز.
فإن كان ذلك في الآخرة أن يراد بالمكان حقيقة، إذ هو جهنم، وإن كان في الدنيا فيكون كناية واستعارة للمكانة في قوله: أولئك شر، لدخوله في ياب الكناية كقولهم: فلان طويل النجاد وهي إشارة إلى الشيء بذكر لوزامه وتوابعه قبل المفضول، وهو مكان المؤمنين، ولا شر في مكانهم.
وقال الزجاج: شر مكانًا على قولكم وزعمكم.
وقال النحاس: أحسن ما قيل شرّ مكانًا في الآخرة من مكانكم في الدنيا، لما يلحقكم من الشر.
وقال ابن عباس: مكانهم سقر، ولا مكان أشد شرًا منه.
والذي يظهر أن المفضول هو غيرهم من الكفار، لأن اليهود جاءتهم البينات والرسل والمعجزات ما لم يجيء غيرهم كثرة، فكانوا أبعد ناس عن اتباع الحق وتصديق الرسل وأوغلهم في العصيان، وكفروا بأنواع من الكفر والرسل، تنتابهم الغيبة بعد الغيبة، فأخبر تعالى عنهم بأنهم شر من الكفار.
{وأضل عن سواء السبيل} أي عن وسط السبيل، وقصده: أي هم حائرون لا يهتدون إلى مستقيم الطريق. اهـ.

.من فوائد ابن كثير في الآية:

قال رحمه الله:
يقول تعالى: قل يا محمد، لهؤلاء الذين اتخذوا دينكم هزوًا ولعبًا من أهل الكتاب: {هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلُ} أي: هل لكم علينا مطعن أو عيب إلا هذا؟ وهذا ليس بعيب ولا مذمة، فيكون الاستثناء منقطعًا كما في قوله: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 8] وكقوله: {وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 74] وفي الحديث المتفق عليه: «ما ينقم ابن جَميل إلا أن كان فقيرًا فأغناه الله».
وقوله: {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} معطوف على {أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلُ} أي: وآمنا بأن أكثركم فاسقون، أي: خارجون عن الطريق المستقيم.
ثم قال: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ} أي: هل أخبركم بشر جزاء عند الله يوم القيامة مما تظنونه بنا؟ وهم أنتم الذين هم متصفون بهذه الصفات القصيرة، فقوله: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ} أي: أبعده من رحمته {وَغَضِبَ عَلَيْهِ} أي: غضبًا لا يرضي بعده أبدًا، {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} كما تقدم بيانه في سوره البقرة. وكما سيأتي إيضاحه في سورة الأعراف إن شاء الله تعالى.
وقد قال سفيان الثوري: عن عَلْقَمَة بن مَرْثَد، عن المغيرة بن عبد الله، عن المعرور بن سُوَيْد، عن ابن مسعود قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير، أهي مما مسخ الله تعالى؟ فقال إن الله لم يهلك قومًا- أو قال: لم يمسخ قومًا- فيجعل لهم نَسْلا ولا عَقِبًا وإن القردة والخنازير كانت قبل ذلك.
وقد رواه مسلم من حديث سفيان الثوري ومِسْعَر كلاهما، عن مُغِيرة بن عبد الله اليشكري، به.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا داود بن أبي الفرات، عن محمد بن زيد، عن أبي الأعين العبدي، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود قال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير، أهي من نسل اليهود؟ فقال: «لا إن الله لم يلعن قومًا فيمسخهم فكان لهم نسل، ولكن هذا خلق كان، فلما غضب الله على اليهود فمسخهم، جعلهم مثلهم».